فم يملؤه التراب

فم يملؤه التراب – برانمير شيبانوفيش

فم يملؤه التراب: في هذه النوفيلا أو الرواية القصيرة نحن أمام حالة لهاث محموم للبحث عن لحظة انعتاق الروح وصفائها.. حتى وإن لم يكن من سبيل إلى ذلك إلا بالفناء.

حين يصبح الوجع ثقيلاً للحد الذي يًُفْقِد المرء توازنه ..وحين تكون الصدمة أقسى من طاقة الاحتمال ، مايدفع المرء للهرب من نفسه وأفكاره وقدره…هو ما حصل مع بطل الرواية الذي ( اذعن لرغبته الجامحة في الفرار تحت جنح الليل إلى أبعد نقطة ممكنة ، هرباً من البشر ) فقرر أن يهرب من قدره في لحظة فوران ذهني عارمة وصدمة طاغية ليتجرد من فكرة الألم و الزمن والانتظار المريع ..يلوذ بالهرب الذي يشعر معه بأنه يسير في اتجاه الحرية والتخفف من أعباء الحياة..

ولكنه يُفاجأ أنه وحتى في لحظات انعتاقه الحميمة هذه وجريه المحموم نحو الموت بأن هناك من البشر من يتطفل على رغبته ويتصدى لها وتمارس الحياة سلطتها عليه بوضع العراقيل في طريقه متمثلة بهولاء الفضوليين الذين أثارهم هروبه الحيواني الغريب وكأنه طريدة فرت من صياد ماكر !

يبدأ هولاء المتطفلين على هروبه بملاحقته بدعوى قلقهم على سلامته وبدافع الفضول و الإنسانية فقط ولكنهم انتهوا بتحميله إثم ظنونهم السيئة بل ومحاكمته وفق هذه الظنون التي اخترعوها فهو بلاشك إما مجنون أو مجرم خطير يجب الإمساك به ، وكان الأمر قد بدأ بشخصين فضوليين لينتهي بقطيع كامل من المطاردين ونقول قطيع نعم لأنهم فقدوا خلال هذه إنسانيتهم التي كانت هي المحرك لهم كما يزعمون ولكنها كشفت عن وحشيتهم ورغبتهم الجامحة في التسلط على هذا الرجل وتعذيبه وانتزاع كرامته بل والتفنن في قتله!

تستمر الرواية التي هي في الحقيقة مشهد سريع يسرد هذه المطاردة الغريبة والمثيرة والمليئة بالفلسفة والأسئلة …ألا يملك المرء الحرية في التعبير عن ألمه الصارخ؟ ألا يحق له تقرير مصيره ؟ لماذا يصادر حق المرء في الاستسلام؟ لماذا نضع أنفسنا أوصياء على سلوك الآخرين ؟ ولماذا نفترض بهم السوء والشر؟ وهل الخوف حين يتوغل في النفس البشرية قادر على تغيير رغباتها وكشف ضعفها وحقيقتها؟ نرى البطل في الرواية يتحول من شخص هارب بإرادته الحرة إلى شخص مُطارد مجبر على الفرار قسراً ولكن هل اختلف الموت الذي كان ينشده حين اختلف موقف الفرار وتغيرت أسبابه؟ هذاما يتجلى في تفاصيل الرواية التب تكشف عن عمق وتعقيد النفس البشرية إزاء المواقف الوجودية المفصلية .

السرد في الرواية يتناوب فيه الطرفان فتارة نرى المشهد من جهة الهارب ثم نراه من جهة المطاردين وهكذا وهو ما خلق ايقاعاً سريعاً وحركة حية وكأنك ترى مشهداً سينمائياً عظيماً بكل مافيه من تناغم بين شخصيات الرواية ومكان الحدث وحتى تفاصيله الأكثر دقة التي رسمت المشهد بوضوح كرائحة العشب والأرض وحفيف الشجر ولهاث البشر كلها امتزجت معاً في مشهد مؤثر وقوي والذي يتسارع ايقاعه منذ بداية الرواية ويستمر بالتصاعد حتى يبلغ الذروة في نهايتها التي تمثلت بمشهد فلسفي مهيب .

الرواية عظيمة جداً لن تترك دون أن تجبرك على التفكير العميق في ذات الأسئلة عن الحق في الحياة والموت وشعور المرء بقيمته وصورته أمام نفسه والآخرين ومالذي يحددهما بالضبط ؟

رواية عيون التنين – ستيفن كينج

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Facebook Twitter Instagram Linkedin Youtube